التبلّد الجارح.. كيف أخبرهم؟

التبلّد الجارح.. كيف أخبرهم؟

كان جايسن في الثانية من عمره وقد أكّد التشخيص الثاني ما جاء في التشخيص الأول حول إصابته باضطراب التوحد، وبات انشغالي به يستهلك الساعات والأيام كالمطحنة ويذرّها رماداً من حولي فتتطاير وتختفي دون أثر منها يذكر. كنت ناقمة جداً ومتعبة جداً، لدرجة أني نسيت تماماً أن لي أمّاً في بلد بعيد تقلق عليّ كما أنا قلقة على جايسن.
 
كثرت اتصالات والدتي وكثر تهربي من الحديث معها، كنت أحيانا عندما أرى رقم هاتفها ألغي الاتصال ببرودة لم أفهم أصلها. لم أكن أريد الكلام معها أو مع أي أحد، حتى خالتي التي ربّتني والتي أحسبها أمي الثانية وأخبرها أعمق أسراري بتّ أتهرب من الكلام معها. نفس التصرف واجهت به مكالمات رفاقي الهاتفية، لم أكن قادرة فكرياً على تداول الأحاديث والمشاغل الصغيرة ولا جاهزة نفسياً للإعلان عن مصاب قلبي الكبير بولدي الوحيد. لكننا نعلم كيف هو إصرار الأمهات، أليس كذلك؟ لقد اتصلت والدتي أخيراً بزوجي وقالت له إنها آتية إلى بريطانيا إن لم أحضر أنا مع ولدي خلال يومين إلى بيروت!

وصلت إلى بيت أهلي ليلاً منهكة من السفر وقبل أن أدخل للنوم التفت إلى جمع أخوتي الذين أتوا لاستقبالي وقلت لهم بعد نظرة شاملة وبشيء يشبه اللامبالاة: جايسن مصاب باضطراب التوحد، ثم أعدت الجملة بالإنكليزية، "جايسن هاز أوتيزم!" سنتكلم صباحاً أريد أن أنام الآن.
استيقظت في اليوم التالي على صوت جايسن الطفولي وهو يلعب بهدوء جنبي، تنبّهت أنني في بيروت، تذكرت آخر جملة قلتها لأهلي بالأمس وشعرت بفظاعة الموقف، فقفزت من السرير وجايسن بين يديّ وخرجت إلى الصالة لأجد عائلتي كما تركتها بالأمس مجتمعة! لم يذهب أحد للنوم، فجّرت بهم لغماً معنوياً فظيعاً وذهبت للنوم لكنهم بقوا هنا في انتظاري وعلى وجوههم شيء لا يفسّر.
عدم تدريب أطباء الأطفال على ضرورة فحص النموّ السلوكي للمواليد والأطفال بشكل منتظم وتلقائي عند كل زيارة صحية، هو أحد أسباب تأخر الكشف عن حالات صعوبات التعلم لدى الصغار
"ما هو اضطراب التوحد؟" سأل أخي بلا أي تحية صباحية أو غيرها، وكأن الوقت توقف لساعات وها نحن نكمل من حيث توقفنا. حقاً، قلت في نفسي، ما هو اضطراب التوحد؟ أجلت نظري في تجاعيد وجه أبي وتقطيبة جبين أمي وابتسامة خالتي العالقة كعلامة استفهام في طرف فمها ثم تأمّلت في تعابير وجوه أخوتي المقفلة... إنها ساعة الحقيقة لي، عليّ أن أردّد بصوتٍ عال ما قرأته بصمت وما داريته بشراسة خلال الأشهر الستة الماضية.
في الأسابيع الأولى من حياة جايسن وحسب القانون البريطاني؛ هناك مشرفة طبية تتابع الأم الجديدة وطفلها إلى أن تتأكد من انتظام أمورهما. مع تكرر اللقاءات تحوّلت هذه السيدة إلى صديقة جيدة وأصبحت تأتيني خارج نظام الزيارات المفروضة. ذات يوم وبينما كانت تداعب جايسن سألتني: هل يستجيب جايسن لاسمه عندما تناديه به؟ كان جايسن في الشهر التاسع من عمره، استغربت السؤال، ثم ناديت جايسن الذي كان جالساً أرضا يلعب بسيارة ملونة، ناديته باسمه مرة ثم اثنتين ثم أكثر، لكنه لم يلتفت كان شديد التركيز في لعبته.

أجلسته تلك السيدة في حضنها وجعلت تمدّ لسانها له فلم يقلّدها رغم وجهه الباسم لها، بدأت تشير له إشارة "إلى اللقاء" لكنه فشل تماماً في تقليدها. بدأت تسألني بماذا يلعب، وكيف يلعب وهل يحدّق طويلاً في الألعاب التي تدور وأسئلة أخرى غريبة. سألتني إن كان يجيد المناغاة وماذا يقول. جفّ فمي وأنا أحاول أن أجيبها بأدب ولكن بدأت أشعر بالضيق. إلّا أنها كانت بغاية الجدّية والإصرار، ثم سألتني إن كان يتبع بنظره ما أدلّه عليه أم يتبع إصبعي، هنا انفجرت بضحكة عصبية وقلت لها إن عمره أشهراً تسعة فقط! لكنها لم تبادلني الضحكة بل قالت إن هناك مشكلة وعلينا أن نبدأ بفحص السمع أولاً.

إن الأسئلة التي سألتني إياها هذه السيدة هي إشارات بغاية الأهمية للكشف المبكر عن التوحد ولا يجوز الاستخفاف بها، لأن جهل الأهل بها وعدم تدريب أطباء الأطفال على ضرورة فحص النموّ السلوكي للمواليد والأطفال بشكل منتظم وتلقائي عند كل زيارة صحية، هو أحد أسباب تأخر الكشف عن حالات صعوبات التعلم لدى الصغار، مما يؤدي لتضييع سنوات ثمينة عليهم كان يمكن استثمارها في مساعدتهم.
أكثر ما أذكره الآن من تلك الجلسة الأولى مع أهلي هو نظرة الأسى على وجه أختي فيما تقاوم دموعها، هي أم رائعة لخمسة أطفال ولم تحتمل أكثر حين ذكرت أن جايسن لم يقل لي ولا مرة كلمة ماما
أخبرت عائلتي كل هذا بهدوء تام، شرحت لأبي أن السبب قد يكون جيني رغم عدم وجود حالة مشابهة في عائلتي أو عائلة والد ابني، وقد يكون بيئي مثل أخذ دواء ما في بداية الحمل أو تنشق مبيدات أو منظفات كيمائية تؤثر على النمو السليم للجنين. في الحقيقة لا يوجد دراسة قادرة على تحديد سبب أكيد لاضطراب التوحد، هل يحدث ذلك في الرحم أم في الأشهر الأولى بعد الولادة وكيف، لا يوجد أجوبة شافية.

لم يكن جايسن يتكلم جمل كاملة في تلك الفترة، كان يفلت كلمة هنا وكلمة هناك من دون أن يعني ما يقول، وهذا يدعى ظاهرة "القلعة الفارغة" نسبة لأن الطفل يكرر كلمة ما كما يردد الصدى الصوت في الأماكن الفارغة. هنا تدخلت والدتي لتقول إن بعض الأطفال لا يتكلمون حتى السنة الرابعة من العمر أحياناً (!)  قول أمي هذا هو تحديداً نوع الحديث الذي يساهم في تعزيز حالة الإنكار لدى الأهل. نظرياً على الطفل أن يبدأ الكلام في حوالي السنة والنصف من عمره فيصفّ كلمتين أو أكثر للتعبير عن حاجة يريدها، أي تأخير عن ذلك أنا أدعوكم للذهاب لاستشارة الأخصائي، لأن التأخير في النطق يدلّ على مروحة كبيرة من صعوبات التعلم ويمكن تلافي تعاظمها من خلال التدخل المبكر.
أكثر ما أذكره الآن من تلك الجلسة الأولى مع أهلي هو نظرة الأسى على وجه أختي فيما تقاوم دموعها، هي أم رائعة لخمسة أطفال ولم تحتمل أكثر حين ذكرت أن جايسن لم يقل لي ولا مرة كلمة "ماما" بعد... لحظتها أدركت أنني سببت وجعاً كبيراً لمجموعة أشخاص يعشقونني ومصابي مصابهم، أشخاص مثلي لم يسمعوا باضطراب التوحد قبلاً ولم يناموا الليلة السابقة بسبب تصرفي الجاف وهم بكل الأحوال لا يعرفون ماذا يقولون لي... كان على الحديث أن يتوقف هنا.

https://www.blogger.com/follow-blog.g?blogID=4561514740690242802
google-playkhamsatmostaqltradent